روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | ملك الجوارح والقرآن العظيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > ملك الجوارح والقرآن العظيم


  ملك الجوارح والقرآن العظيم
     عدد مرات المشاهدة: 3387        عدد مرات الإرسال: 0

خرج الإنسان إلى الدنيا بعدما مكث في عالم الأرحام مدةً قدَّرها الله تبارك وتعالى، وأسبغ عليه من النِّعم الظاهرة والباطنة، والفائز في الحقيقة من سلك طريق الخير وكان من الشاكرين: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].

وجعل الله تعالى مدار الهداية والغِواية للإنسان على قلبه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

وجعل الله عز وجل القلب مصدراً للتأثير على الجوارح في تلقي الوحي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].

ويكمن الصلاح والفساد في القلب الذي يعتبر ملكاً للجوارح، فإذا صح القلب من مرضه وفساده، ورفل بأثواب العافية والصلاح، تبعته الجوارح كلها، لأنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى الله فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ».

والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف خالقه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل خالقه، وكثير من الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وخالقهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، وأعظم من ذلك كله أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، فيمنعه الله عز وجل عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته، مع أن حاجة القلب إلى معرفة الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].

والقلب في الحقيقة محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والإنقياد له، والتسليم له، ولذا صار القلب محل نظر الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ».

والسعادة الحقيقية للإنسان في إخراج قلبه من تحت حطام الدنيا، وتصفيته من الشرك وشوائبه، وجعله في السماء قريباً من الوحي الإلهي منقاداً به خاضعاً له، والطريق المؤدي إلى ذلك هو سلوك سُبل العلم الصحيحة، وترجمتها إلى أعمال صالحة تقوم بها الجوارح، ومن فاته العلم النافع وقع في الأربع التي إستعاذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا».

والقلب الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها، ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك فيعطب، والموت الحقيقي للقلب يكون بإنقطاع القنوات من الوحي الإلهي عنه، حتى ولو كان سليم البدن والعقل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].

وإذا مات قلب العبد تعطلت جوارحه عن الطاعة والعبادة، ولم يؤدِ حق الله تعالى من الطاعة والعبودية، ولم يعمل بكتاب ربِّه ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعادى الرحمن ووالى الشيطان، وأكل رزق الله تعالى ولم يشكره، ودفن الموتى ولم يعتبر، وعلم أن الموت حق ولم يستعد له، وأقبل على الدنيا يعمرها ويجمعها وينافس في جمع حطامها، ويتعذب بذلك في ليله ونهاره كله، قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].

وزينة القلب الحقيقية تكمن في الإيمان، ومن جميل وصف الرب سبحانه وتعالى للجيل الأول رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].

وزينة الجوارح الحقيقية بالأعمال، وزينة الإنسان الداخلية والخارجية تكمل بالأخلاق الحسنة التي وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

والعالمون بالله تعالى يوقنون أنه ليس في الوجود شيء غير الله تعالى يسكن إليه القلب، ويطمئن ويأنس به، ويتلذذ بالتوجه إليه، وأنه لا نعيم للقلب ولا لذة، ولا إبتهاج ولا كمال، إلا بمعرفة الله تعالى ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والإبتهاج بقربه، والشوق إلى لقائه، فهذه جنته العاجلة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

وتزكية القلوب تكون بالتوحيد والإيمان والنوافل المشروعة، وترك المعاصي والمحرمات، فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق: {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18]، وهذا كله من فضل الله تعالى، فلولا فضله ورحمته على المؤمنين ما زكت نفس واحدة، كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].

وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله تعالى لفسدتا، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى، فسد فساداً لا يرجى صلاحه، إلا أن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله وحده هو إلهه ومعبوده ومحبوبه، كما وصف الله تعالى أهل الإيمان بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة:165]، فحبهم لله تعالى، وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه.

وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله تعالى فتحت لها أبواب الهداية والسعادة والخير في الدنيا والآخرة: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].

وإذا أحب الله عبداً، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، وإستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى:13].

وصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والإستعانة به وحده: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213].

وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والإستعانة به، فإحذر ذلك: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [الإسراء:22].

وأعظم أسباب إنشراح الصدر التوحيد الخالص لله تعالى، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون إنشراح صدر صاحبه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].

من علامات القلب الحي الواردة في كتاب الله تعالى:

۱= وجل القلب من الله سبحانه، وشدة خوفه منه، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].

۲= القشعريرة في البدن، ولين الجلود والقلوب عند سماع آيات القرآن العظيم، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].

۳= خشوع القلب عند ذكر الله سبحانه، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

٤= الإذعان للحق والإخبات له، كما قال الله سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج:54].

٥= كثرة الإنابة إلى الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق:33].

٦= السكينة والوقار، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4].

٧= خفقان القلب بحب المؤمنين، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].

۸= سلامة القلب من الأحقاد، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

* وختاماً: فإنه ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن العظيم، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر، وتدله على مفاتيح كنوز السعادة، والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صور الدنيا والآخرة.

اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وأُرزقنا حسن تلاوة كتابك، وحسن العمل بشرعك، وصدق الإخلاص في عبادتك، والشرف في إتباع سنة نبيك عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53].

الكاتب: ناصر بن سعيد السيف.

المصدر: موقع المحتسب.